الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة **
ثم في
دوادارًا كبيرًا بإمرة طبلخاناة انتقل إليها من الجندية عوضًا عن منكوتمر من عبد الغني. واستقر يلبغا الناصري اليلبغاوي خازندارًا كبيرًا عوضًا عن يعقوب شاه. قلت: والناصري هذا هو صاحب الوقعة مع الملك الظاهر برقوق الآتي ذكرها في ترجمة الظاهر المذكور. ثم في سنة ثلاث وسبعين عزل السلطان الأمير اشقتمر المارديني عن نيابة حلب بالأمير عز الدين أيدمر الدوادار. قلت: وإشقتمر المارديني هذا ومنجك اليوسفي نائب الشام وبيدمر الخوارزمي هؤلاء الثلاثة لا أعلم أحدًا في الدولة التركية ولي ولايتهم من الأعمال والوظائف ولا طال مكثه في السعادة مثلهم على ما ذكرناه فيما مضى وما سنذكره فيما يأتي إن شاء الله تعالى. على أن اشقتمر هذا طال عمره في السعادة حتى ولي نيابة الشام عن الملك الظاهر برقوق وبرقوق يومئذ في خدمة منجك اليوسفي نائب الشام وإلى الآن لم يتصل بخدمة السلطان ولا صار من جملة المماليك السلطانية. وقد تقدم أن اشقتمر ولي الأعمال الجليلة من سلطنة الملك الناصر حسن الأولى وكان يلبغا العمري أستاذ برقوق يوم ذاك خاصكيا فأنظر إلى تقلبات هذا الدهر ونيل كل موعود بما وعد. انتهى. وفي سنة ثلاث وسبعين المذكورة رسم السلطان الملك الأشرف أن الأشراف بالديار المصرية والبلاد الشامية كلهم يسمون عمائمهم بعلامة خضراء بارزة للخاصة والعامة إجلالًا لحقهم وتعظيمًا لقدرهم ليقابلوا بالقبول والإقبال ويمتازوا عن غيرهم من المسلمين. فوقع ذلك ولبسوا الأشراف العمائم الخضر التي هي الآن مستمرة على رؤوسهم. فقال الأديب شمس الدين محمد بن إبراهيم الشهير بالمزين في هذا المعنى: الكامل أطراف تيجان أتت من سندس خضر كأعلام على الأشراف والأشرف السلطان خصصهم بها شرفًا لنعرفهم من الأطراف وقال أيضا في المعنى الشيخ شمس الدين محمد بن أحمد بن جابر الأندلسي: الكامل جعلوا لأبناء الرسول علامة إن العلامة شأن من لم يشهر نور النبوة في كريم وجوههم يغني الشريف عن الطراز الأخضر وقال أيضًا في المعنى الشيخ بدر الدين حسن بن حبيب الحلبي: الرجز عمائم الأشراف قد تميزت بخضرة رقت وراقت منظرا وقال ولده أبو العز طاهر بن حسن بن حبيب في المعنى أيضًا: الطويل ألا قل لمن يبغي ظهور سيادة تملكها الزهر الكرام بنو الزهرا وقال الشيخ شهاب الدين بن أبي حجلة التلمساني الحنفي - تغمدة الله تعالى - في المعنى أيضًا: الطويل لآل رسول الله جاه ورفعة بها رفعت عنا جميع النوائب وقد أصبحوا مثل الملوك برنكهم إذا ما بدوا للناس تحت العصائب قلت: وبهذه الفعلة يدل على حسن اعتقاد الملك الأشرف المذكور في آل بيت النبوة وتعظيمه لهم ولقد أحدث شيئًا كان الدهر محتاجًا إليه ولا ألهم الله تعالى الملوك ذلك من قبله ولله در القائل: كم ترك الأول للآخر. وفي أول سنة أربع وسبعين وسبعمائة استقر الأمير ألجاي اليوسفي أمير سلاح أتابك العساكر بالديار المصرية عوضًا عن منكلي بغا الشمسي بحكم وفاته - إلى رحمة الله تعالى - وأخلع عليه أيضًا بنظر البيمارستان المنصوري فعند ذلك عظم قدر ألجاي المذكور من كونه زوج أم السلطان وصار أتابك العساكر وبهذا استطال ألجاي في المملكة فإنه قبل زواجه بأم السلطان خوند بركة كان من جملة الأمراء المقدمين لا غير انتهى. ثم أخلع السلطان على الأمير كجك من أرطق شاه باستقراره أمير سلاح برانيًا عوضًا عن ألجاي اليوسفي المذكور. وأستقر يلبغا الناصري شاد الشراب خاناه عوضًا عن كجك. واستقر ثم توجه السلطان إلى سرحة الأهرام بالجيزة وعاد بعد أيام وعند عوده إلى قلعة الجبل أخلع على الطواشي سابق الدين مثقال مقدم المماليك السلطانية قباء حرير أزرق صاف بطرز زركش عريض أسوة بالأمراء الخاصكية وهذا شيء لم يلبسه مقدم قبله. وكان السلطان الملك الأشرف قبل ذلك قد استجد في كل سنة عند طلوعه من هذه السرحة وهي توجه السلطان إلى ربيع الخيل أن يلبس الأمراء الخاصكية مقدمي الألوف أقبية حرير بفرو سمور بأطواق سمور بطرز زركش والطبلخانات والعشرات أقبية حرير بطرز زركش منها ما هو بفرو قاقم ومنها ما هو بفرو سنجاب. ثم بعد ذلك نزل السلطان في يوم الثلاثاء سادس عشر ذي القعدة سنة أربع وسبعين ووالدته معه وهي متمرضة إلى الروضة تجاه مصر القديمة بمنظرة الأمير طشتمر الدوادار فأقام فيها يوم الثلاثاء والأربعاء وصحبته جميع الأمراء وطلع يوم الخميس إلى القلعة. واستمرت أم السلطان متمرضة إلى أن ماتت في ذي الحجة وهي في عصمة ألجاي اليوسفي وصلى عليها ابنها السلطان الملك الأشرف ودفنت بمدرستها التي عمرتها بخط التبانة خارج القاهرة بالقرب من باب الوزير. ووجد عليها ولدها الملك الأشرف وجدًا عظيمًا لأنها كانت من خيار نساء عصرها دينًا وخيرًا وصدقة ومعروفًا. ومن الاتفاق العجيب بعد موتها البيتان اللذان عملهما الأديب في مستهل العشر من ذي الحجة كانت صبيحة موت أم الأشرف فالله يرحمها ويعظم أجرها ويكون في عاشور موت اليوسفي فكان الأمر على ما ذكر وهذا من الاتفاق الغريب وهو أنه لما ماتت خوند بركة المذكورة واستهلت سنة خمس وسبعين وقع بين الملك الأشرف وبين زوج أمه ألجاي اليوسفي كلام من أجل التركة المتعلقة بخوند بركة المذكورة وكان ذلك يوم الثلاثاء سادس المحرم من السنة المذكورة. وكثر الكلام بين السلطان وبين ألجاي اليوسفي حتى غضب ألجاي وخرج عن طاعة الملك الأشرف ولبس هو ومماليكه آلة الحرب ولبست مماليلك السلطان أيضًا. وركب السلطان بمن معه من أمرائه وخاصكيته وباتوا الليلة لابسين السلاح إلى الصباح. فما كان نهار الأربعاء سابع المحرم كانت الوقعة بين الملك الأشرف شعبان وبين زوج أمه الأتابك ألجاي اليوسفي فتواقعوا إحدى عشرة مرة وعظم القتال بينهما حتى كانت الوقعة الحادية عشرة انكسر فيها ألجاي اليوسفي وانهزم إلى بركة الحبش. ثم تراجع أمره وعاد بمن معه من على الجبل الأحمر إلى قبة النصر فطلبه السلطان الملك الأشرف فأبى فأرسل إليه خلعة بنيابة حماة فقال: أنا أروح بشرط أن يكون كل ما أملكه وجميع مماليكي معي فأبى السلطان ذلك وباتوا تلك الليلة. فهرب جماعة من مماليك ألجاي في فلما كان صباح يوم الخميس ثامن المحرم أرسل السلطان الأمراء والخاصكية ومماليك أولاده وبعض المماليك السلطانية إلى قبة النصر إلى حيث ألجاي فلما رآهم ألجاي هرب فساقوا خلفه إلى الخرقانية. فلما رأى ألجاي أنه مدرك رمى بنفسه وفرسه إلى البحر ظنا أنه يعدي به إلى ذلك البر وكان ألجاي عوامًا فثقل عليه لبسه وقماشه فغرق في البحر وخرج فرسه. وبلغ الخبر السلطان الملك الأشرف فشق عليه موته وتأسف عليه. ثم أمر بإخراجه من النيل فنزل الغواصون وطلعوا به وأحضروه إلى القلعة في يوم الجمعة تاسع المحرم في تابوت وتحته لباد أحمر فغسل وكفن وصلى عليه الشيخ جلال الدين التباني ودفن في القبة التي أنشأها بمدرسته برأس سويقة العزي خارج القاهرة والمدرسة معروفة وبها خطبة. وكان ألجاي من أجل الأمراء وأحسنها سيرة. ثم قبض السلطان على مماليك ألجاي ونودي بالمدينة أن كل من لقي أحدًا منهم يحضره إلى السلطان ويأخذ له خلعة. ثم أخذ السلطان أولاد ألجاي وهم إخوته لأمه ورتب لهم ما يكفيهم واحتاط على سائر موجود ألجاي وأخذ جميع مماليكه وصفح عنهم وجعلهم في خدمة ولديه: أمير علي وأمير حاج. ثم قبض السلطان على جماعة من الأمراء ممن كان يلوذ بالأمير ألجاي وهم: صراي العلائي وسلطان شاه بن قراجا وطقتمر الحسني وعلي بن كلبك وصادره. ثم أمسك بيبغا القوصوني وخليل بن قماري الحموي فشفع فيهما الأمير طشتمر الدوادار. ثم في آخر صفر رسم السلطان بنفي جماعة إلى البلاد الشامية وهم: محمد شاه دوادار ألجاي وخليل بن عرام المعزول عن نيابة الإسكندرية وعلي بن كلبك وآقبغا البشمقدار خازندار ألجاي. وكان السلطان في تاسع المحرم رسم لبوري الحلبي الخازندار أن يتوجه إلى طرابلس لإحضار نائبها الأمير عز الدين أيدمر الدوادار الناصري إلى مصر فتوجه بوري إليه وأحضره. فلما مثل بين يدي السلطان أخلع عليه باستقراره أتابك العساكر بالديار المصرية عوضًا عن ألجاي اليوسفي وتولى عوضه نائب طرابلس الأمير يعقوب شاه. وبعد موت ألجاي أنعم السلطان على جماعة من الأمراء بإقطاعات ووظائف فأخلع على الأمير صرغتمش الأشرفي باستقراره أمير سلاح خاصكيًا يجلس بالإيوان في دار العدل واستقر أرغون الأحمدي اللالا أميرًا كبيرًا برانيًا وأجلس بالإيوان قاله العيني في تاريخه ووافقه غيره. قلت: فيكون على هذا الحكم تلك الأيام أمير كبير خاص وأمير كبير براني وأمير سلاح خاص وأمير سلاح براني وهذا شيء لم يسمع بمثله. انتهى ثم أنعم السلطان على قطلوبغا الشعباني بتقدمة ألف واستقر رأس نوبة ثانيًا. قلت: وهذه الوظيفة الآن هي وظيفة رأس نوبة النوب. ورأس نوبة نوب تلك الأيام قد بطلت من الدولة الناصرية فرج بن برقوق. وكانت تسمى رأس نوبة الأمراء وآخر من وليها آقباي الطرنطاوي الحاجب. ثم أخلع على جماعة وأنعم عليهم بإمرة طبلخانات وهم: أحمد بن يلبغا العمري الخاصكي واقتمر الصاحبي وتمرباي الحسني وإينال اليوسفي وعلي بن بهادر الجمالي وبلوط الصرغتمشي ومختار الطواشي الحسامي مقدم الرفرف. قلت: وأيضًا هذا شيء لم يسمع بمثله من أن يكون بعض خدام الأطباق أمير طبلخاناه. وأغرب من ذلك أن مقدم المماليك في زماننا هذا إقطاعه إمرة عشرة ضعيفة. انتهى. وخلع على ألجيبغا المحمدي وحاجى بك بن شادي. وأنعم على اثنين بعشرات وهم ألطنبغا من عبد الملك وطشتمر الصالحي. ثم في عاشر شهر ربيع الآخر استقر أحمد بن آل ملك في نيابة غزة عوضًا عن طشبغا المظفري. وأنعم على مبارك الطازي بتقدمة ألف وعلى سودون جركس المنجكي بتقدمة ألف. وارتجع السلطان من طينال المارديني تقدمته وأنعم عليه بإمرة طبلخاناه ثم استمر منكلي بغا البلدي الأحمدي في نيابة الكرك. واستقر ناصر الدين محمد بن آقبغا آص أستادارًا بتقدمة ألف. ثم أنعم السلطان على ألطنبغا ططق العثماني بتقدمة ألف واستقر أمير سلاح برانيًا عوضًا عن طيدمر البالسي. وأنعم على طغيتمر اليلبغاوي الدوادار الثاني بإمرة طبلخاناه وهو أول من لبس الدوادارية الثانية. ثم نقل منكلي بغا البلدي من نيابة الكرك إلى نيابة صفد. واستقر آقتمر عبد الغني النائب بديار مصر في نيابة طرابلس وقد تقدم أن آقتمر هذا كان ولي نيابة الشام سنين. وفي رابع عشرين ذي القعدة استقر يلبغا الناصري اليلبغاوي صاحب الوقعة مع برقوق الآتي ذكرها حاجبًا ثانيًا بإمرة مائة وتقدمة ألف. ثم عزل السلطان سابق الدين مثقالًا الآنوكي مقدم المماليك وأمره أن يلزم بيته واستقر عوضه في تقدمة المماليك الطواشي مختار الحسامي مقدم الرفرف المقدم ذكره. ثم ندب السلطان الأمير يلبغا الناصري للسفر إلى دمشق لإحضار نائبها الأمير منجك اليوسفي فسار من وقته إلى أن وصل إلى دمشق وأحضر الأمير منجك المذكور. ووصل منجك إلى الديار المصرية وصحبته أولاده ومملوكه جركتمر وصهره آزوس المحمودي بعد أن احتفل أهل الدولة لملاقاته وخرجت إليه الأمراء إلى بين الحوضين خارج قبة النصر. وطلع إلى القلعة من باب السر وسائر الأمراء والخاصكية مشاة بين يديه في ركابه مثل أيدمر الدوادار ومن دونه بإشارة السلطان. فلما دخل منجك على السلطان وقبل الأرض أقبل عليه السلطان إقبالًا كليًا وخلع عليه باستقراره نائب السلطنة بالديار المصرية خاصكيا عوضًا عن آقتمر عبد الغني المنتقل إلى نيابة طرابلس وفوض إليه السلطان النظر في الأحباس والأوقاف والنظر في الوزارة - فإنه كان وليها بعد موت أستاذه الملك الناصر محمد بن قلاوون كما تقدم ذكره - والنظر على ناظر الخاص وقرئ تقليده بالإيوان وأن السلطان أقامه مقام نفسه في كل شيء وفوض إليه سائر أمور المملكة وأنه يخرج الإقطاعات التي عبرتها سبعمائة دينار إلى ما دونها وأنه يعزل من شاء من أرباب الدولة وأنه يخرج الطبلخانات والعشرات بسائر المماليك الشامية ورسم للوزير أن يجلس قدامه في الدركاه مع الموقعين. ثم بدأ الغلاء بالديار المصرية في هذه السنة وتزايد سعر القمح إلى أن أبيع بتسعين درهمًا الإردب وزاد النيل بعد أن نقص في شهر هاتور وهذا أيضًا من الغرائب. وهذه السنة تسمى سنة الشراقي كما سنبينه في حوادث السنين من سلطنة الملك الأشرف هذا. ثم في أول سنة ست وسبعين عزل السلطان الأمير آقتمر عبد الغني عن نيابة طرابلس بالأمير منكلي بغا البلدي نائب صفد وولاه نيابة صفد. ثم مرض الأمير منجك اليوسفي النائب فنزل السلطان لعيادته ففرش منجك تحت رجلي فرسه الشقق الحرير وقدم له عشرة مماليك وعشرة بقج وعدة خيول فقبلها السلطان ثم أنعم بها عليه. وكان ذلك في يوم الثلاثاء سابع عشرين ذي الحجة. ومات منجك بعد يومين. ثم ورد الخبر على السلطان بأن القان حسين ابن الشيخ أويس ابن الشيخ حسن بن حسين بن آقبغا بن أيلكان تولى مملكة تبريز وبغداد بعد وفاة أبيه. وفي هذه السنة فتحت سيس - وهي كرسي الأرمن - على يد الأمير اشقتمر المارديني نائب حلب بعد أن نازلها مدة ثلاثة شهور حتى فتحها وانقرضت منها دولة الأرمن - ولله الحمد - فدقت البشائر لذلك وفرح الملك الأشرف فرحًا عظيمًا بهذا الفتح العظيم. وفي هذه السنة - أيضًا وهي سنة ست وسبعين المذكورة - وقع الفناء بالديار المصرية من نصف جمادى الآخرة وتزايد في شعبان ثم في شهر رمضان حتى صار يموت في كل يوم من الحشرية نحو خمسمائة نفس ومن الطرحى نحو الألف. وأبيع كل فروج بخمسة وأربعين درهمًا وكل سفرجلة بخمسين درهمًا وكل رمانة بعشرة دراهم والعشرة دراهم يوم ذاك كانت أزيد من نصف دينار وكل رمانة حلوة بستة عشر درهمًا وكل بطيخة صيفية بسبعين درهمًا. ولما توفي منجك شغرت نيابة السلطنة بديار مصر إلى العشرين من شهر ربيع الأول واستقر فيها وفي محرم سنة سبع وسبعين ختن السلطان أولاده وعمل المهم سبعة أيام. وفي العشر الأوسط من صفر هذه السنة ابتدأ الملك الأشرف بعمارة مدرسته التي أنشأها بالصوة تجاه الطبلخاناه السلطانية التي موضعها الآن بيمارستان الملك المؤيد شيخ وهو كلا شيء فاشترى الملك الأشرف بيت الأمير شمس الدين سنقر الجمالي وشرع في هدمه. وفي هذه السنة تزايد الغلاء بالبلاد الشامية حتى جاوز الحد وجعل الغني فقيرًا وأبيع فيه الرطل الخبز بدرهمين. وفي هذا المعنى يقول بدر الدين بن حبيب: الخفيف لا تقيمن بي على حلب الشه - - باء وارحل فأخضر العيش أدهم كيف لي بالمقام والخبز فيها كل رطل بدرهمين ودرهم وفي سنة ثمان وسبعين عزل السلطان الملك الأشرف آقتمر الصاحبي الحنبلي عن نيابة السلطنة بالديار المصرية واستقر به أتابك العساكر وعزل الأمير آقتمر عبد الغني عن نيابة صفد واستقر به أمير مائة ومقدم ألف بالقاهرة. ثم في العشرين من شهر ربيع الآخر غرقت الحسينية خارج القاهرة وخرب فيها أزيد من ألف بيت. وكان سبب هذا الغرق أن أحمد بن قايماز أستادار محمد ابن آقبغا آص استأجر مكانًا خارج القاهرة بالقرب من آخر الحسينية وجعله بركة ليجتمع فيه السمك وفتح له مجرى من الخليج فتزايد الماء وغفلوا عنه فطفح على الحسينية فغرقها. فقبض السلطان بعد ذلك بمدة على محمد بن اقبغا آص وصادره وعزله عن الأستادارية هذا والسلطان في تأهب سفر الحجاز. فلما كان يوم الأربعاء تاسع عشر شهر رمضان سفر السلطان إخوته وأولاد أعمامه إلى الكرك صحبة الأمير سودون الفخري الشيخوني ليقيم عندهم بالكرك مدة غيبة السلطان في الحجاز. كل ذلك والسلطان متضعف وحركة الحجاز عمالة وحواشيه وخواصه ينهونه عن السفر في هذه السنة وهولا يلتفت إلى كلامهم. ثم توجه السلطان إلى سرياقوس على عادته في كل سنة وعاد وقد نصل عن ضعفه إلى يوم السبت الثاني عشر من شوال خرجت أطلاب الأمراء المتوجهين صحبة السلطان إلى الحجاز. وفي الأحد ثالث عشره خرج السلطان بتجمل زائد وطلب عظيم إلى الغاية جر فيه عشرون قطارًا من الهجن الخاص بقماش ذهب وخمسة عشر قطارًا بقماش حرير وقطار واحد بلبس خليفتي وقطار آخر بلبس أبيض برسم الإحرام ومائة فرس ملبسة وكجاوتان بأغشية زركش وتسع محفات غشاء خمس منهن زركش وستة وأربعون زوجًا من المحاير وخزانة عشرون جملًا وقطاران من الجمال محملة خضر مزروعة كالبقل والشمار والنعناع والسلق والكسبرة وغير ذلك. وأما أحمال المطاعم والمشارب والمآكل فلا تدخل تحت حصر كثرة: منها ثلاثون ألف علبة حلاوة في كل علبة خمسة أرطال كلها معمولة من السكر المكرر المصري وطيبت بمائة مثقال مسك سوى الصندل والعود هذا خلاف ما كان للأمراء والخاصكية. وإنما كان هذا للسلطان خاصة نفسه وأشياء من هذا النموذج كثيرة ومع هذا كله لم يتغير سعر السكر بمصر. وسار السلطان بأمرائه في أبهة عظيمة حتى نزل سرياقوس فأقام بها يومًا. وفي هذا اليوم أخلع السلطان على الشيخ ضياء الدين القرمي الحنفي باستقراره شيخ شيوخ المدرسة التي أنشأها بالصوة وقد أشرفت على الفراغ وجاءت من أحسن البناء. ثم رحل السلطان من سرياقوس حتى نزل بالبركة على عادة الحجاج فأقام بها إلى يوم الثلاثاء ثاني عشرين شوال. ورحل منها بعساكره وأمرائه إلى جهة الحجاز وكان الذي صحبه من أمراء الألوف تسعة وهم: الأمير صرغتمش الأشرفي وأرغون شاه الأشرفي ويلبغا الشامي - وهؤلاء الثلاثة أشرفية مماليكه - والأمير بهادر الجمالي وصراي تمر المحمدي وطشتمر العلائي الدوادار ومبارك الطازي وقطلقتمر العلائي الطويل وبشتك من عبد الكريم الأشرفي أيضًا. ومن أمراء الطبلخانات خمسة وعشرون أميرًا وهم: بوري الأحمدي وأيدمر الخطائي من صديق وعبد الله بن بكتمر الحاجب وبلوط الصرغتمشي وآروس المحمودي ويلبغا المحمدي ويلبغا الناصري - على أنه كان أنعم عليه بتقدمة ألف غير أنه أضيف إلى الطبلخانات كونه كان حاجبًا ثانيًا - وأرغون العزي الأفرم وطغيتمر الأشرفي ويلبغا المنجكي وكزل الأرغوني وقطلوبغا الشعباني وأمير حاج بن مغلطاي وعلي بن منجك اليوسفي ومحمد بن تنكز بغا وتمرباي الحسني الأشرفي وأسندمر العثماني وقرابغا الأحمدي وإينال اليوسفي وأحمد بن يلبغا العمري وموسى بن دندار بن قرمان ومغلطاي البدري وبكتمر العلمي وآخر. ومن العشرات خمسة عشر أميرًا وهم: آقبغا بوز الشيخوني وأبو بكر بن سنقر الجمالي وأحمد بن محمد بن بيبرس الأحمدي وأسنبغا التلكي وشيخون ومحمد بن بكتمر الشمسي ومحمد بن قطلوبغا المحمدي وخضر بن عمر بن أحمد بن بكتمر الساقي وجوبان الطيدمري وألطنبغا من عبد الملك وقطلوبغا البزلاري وطوغان العمري الظهيري وتلكتمر العيسوي ومحمد بن سنقر المحمدي. وعين الملك الأشرف جماعة من الأمراء ليقيموا بالديار المصرية. عين الأمير أيدمر الشمسي نائب الغيبة بالقلعة وأميرين أخر تسكن بالقلعة أيضًا وعين الأمير آقتمر عبد الغني نائب الغيبة وأن يسكن بالقاهرة للحكم بين الناس. وعين أيضًا للإقامة بالديار المصرية من الأكابر: الأمير طشتمر اللفاف وقرطاي الطازي وأسندمر الصرغتمشي وأينبك البحري. وسافر السلطان وهو متوعك في بدنه بعد أن أشار عليه جماعة حمن الصلحاء والأعيان بتأخير الحج في هذه السنة فأبى إلا السفر لأمر يريده الله تعالى. وأمر السلطان لنائب الغيبة وغيره أن يطلعوا القلعة في كل يوم موكب ويدخلوا إلى باب الستارة ويخرج الأسياد أولاد السلطان الملك الأشرف ساعة ثم يعود كل واحد إلى محله فامتثلوا ذلك. فكانوا لما يطلعون إلى القلعة ويخرج عليهم الأسياد وأكبرهم أمير علي يقوم الأمراء ويبوسون أيديهم ويقعدون ساعة لطيفة فيقوم أمير علي ويشير بيده أمرًا باسم الله فيقوم الأمراء وينصرفون بعد أن يسقون مشروبًا. ووقع ذلك في غيبة السلطان مدة يسيرة. فلما كان يوم السبت ثالث ذي القعدة أتفق طشتمر اللفاف وقرطاي الطازي وأسندمر الصرغتمشي وأينبك البحري وجماعة من المماليك السلطانية وجماعة من مماليك الأسياد أولاد السلطان الملك الأشرف وجماعة من مماليك الأمراء المسافرين صحبة السلطان الملك الأشرف ولبسوا السلاح واتفق معهم من بالأطباق من المماليك السلطانية وهجموا الجميع القلعة وقصدوا باب الستارة فغلق سابق الدين مثقال الزمام باب الساعات ووقف داخل الباب ومعه الأمير جلبان اللالا - لالا أولاد السلطان - وآقبغا جركس اللالا أيضًا. فدقت المماليك الباب وقالوا: أعطونا سيدي أمير علي فقال لهم اللالا: من هو كبيركم حتى نسلم لهم سيدي عليًا وأبى أن يسلمهم سيدي عليًا. وكثر الكلام بينهم ومثقال الزمام يصمم على منع أمير علي فقالوا له: السلطان الملك الأشرف مات ونريد أن نسلطن ولده أمير علي فلم يلتفت مثقال إلى كلامهم. فلما علموا المماليك ذلك طلعوا جميعًا وكسروا شباك الزمام المطل على باب الساعات ودخلوا منه ونهبوا بيت الزمام وقماشه. ثم نزلوا إلى رحبة باب الستارة ومسكوا مثقالًا الزمام وجلبان اللالا وفتحوا الباب. فدخلت بقيتهم وقالوا: أخرجوا أمير علي حتى نسلطنه فإن أباه توفي إلى رحمة الله تعالى فدخل الزمام على رغم أنفه وأخرج لهم أمير علي فأقعد في باب الستارة. ثم أحضر الأمير أيدمر الشمسي فبوسوه الأرض لأمير علي. ثم أركبوا أمير علي على بعض خيولهم وتوجهوا به إلى الإيوان الكبير. وأرسلوا خلف الأمراء الذين بالقاهرة فركبوا إلى سوق الخيل وأبوا أن يطلعوا إلى القلعة فأنزلوا أمير علي إلى الإسطبل السلطاني حتى رأوه الأمراء فلما رأوه طلعوا وقبلوا له الأرض وحلفوا له. غير أن الأمير طشتمر الصالحي وبلاط السيفي ألجاي الكبير وحطط رأس نوبة النوب لم يوافقوا ولا طلعوا فنزلوا إليهم المماليك ومسكوهم وحبسوهم بالقصر وعقدوا لأمير علي بالسلطنة ولقبوه بالملك المنصور على ما يأتي ذكره في محله ونسوق الواقعة على جليتها. ثم نادوا بالديار المصرية بالأمان والبيع والشراء بعد أن أخذوا خطوط سائر الأمراء المقيمين بمصر. فأقاموا ذلك النهار وأصبحوا يوم الأحد رابع ذي القعدة من سنة ثمان وسبعين وسبعمائة وهم لابسون آلة الحرب واقفون بسوق الخيل يتكلمون في إتمام أمرهم. وبينما هم في ذلك جاءهم الخير أن شخصًا يسمى قازان اليرقشي كان مسافرًا صحبة السلطان الملك الأشرف إلى الحجاز الشريف وجدوه متنكرًا فمسكوه وأتوا به إلى الأمراء فسألوه عن خبر قدومه وعن أخبار السلطان فأبى أن يخبرهم بشيء وأنكر أنه لم يتوجه إلى الحجاز. فأوهموه بالتوسيط فأقر وأعلمهم الخبر بقدوم السلطان الملك الأشرف شعبان وكسرته من مماليكه بالعقبة فقالوا له: وما سبب هزيمة السلطان من عقبة أيلا قال: لما نزل السلطان الملك الأشرف بمن معه من أمرائه وعساكره إلى العقبة وأقام بها يوم الثلاثاء ويوم الأربعاء سلخ شوال فطلب المماليك السلطانية العليق فقيل لهم اصبروا إلى منزلة الأزلم فغضبوا وامتنعوا من أكل السماط عصر يوم الأربعاء واتفقوا على الركوب. فلما كانت ليلة الخميس المذكورة ركبوا على السلطان ورؤوسهم الأمير طشتمر العلائي ومبارك الطازي وصراي تمر المحمدي وقطلقتمر العلائي الطويل وسائر مماليك الأسياد وأكثر المماليك السلطانية. فلما بلغ السلطان أمرهم ركب بأمرائه وخاصكيته وتواقعوا فانكسر السلطان وهرب هو ومن كان معه من الأمراء وهم: صرغتمش الأشرفي وأرغون شاه الأشرفي وبيبغا الأشرفي وبشتك الأشرفي وأرغون كتك ويلبغا الناصري. وصار السلطان بهؤلاء إلى بركة عجرود فنزل بها وهو مقيم بها. فقالوا له: كذبت قل لنا حقيقة أمره فامتنع وحلف. فأرادوا توسيطه حقيقة فقال: أطلقوني أنا أدلكم عليهم. فأطلقوه فأخذهم وتوجه بهم إلى قبة النصر خارج القاهرة إلى محل كان الأشرف نزل فيه بجماعته فوجدوا بالمكان أرغون شاه وصرغتمش وبيبغا وبشتك وأرغون كتك. وكان الذي توجه مع قازان اليرقشي من القوم أسندمر الصرغتمشي وطولو الصرغتمشي ومعهما جماعة كبيرة من المماليك الذين ثاروا بالقاهرة. فقبضوا على الأمراء المذكورين وسألوهم عن الملك الأشرف فقالوا: فارقنا وتوجه هو ويلبغا الناصري إلى القاهرة ليختفي بها فقتلوا الأمراء المذكورين في الحال وحزوا رؤوسهم وأتوا بها إلى سوق الخيل ففرح بذلك بقية الأمراء الذين هم أصل الفتنة وعلموا أن الأشرف قد زال ملكه. وأما الملك الأشرف فإنه لما وصلى إلى قبة النصر توجه منها نحو القاهرة ومعه يلبغا الناصري واختفى عند أستادار يلبغا الناصري فلم يأمن على نفسه فتوجه تلك الليلة من عند أستادار يلبغا الناصري إلى بيت آمنة زوجة المشتولي فاختفى عندها. فقلق عند ذلك الأمراء الذين أثاروا الفتنة وخافوا عاقبة ظهور الأشرف وهم: قرطاي الطازي وطشتمر اللفاف وأسندمر الصرغتمشي وقطلوبغا البدري وألطنبغا السلطاني وبلاط الصغير ودمراش اليوسفي وأينبك البدري ويلبغا النظامي وطولو الصرغتمشي - وهؤلاء الأمراء وأما الأجناد فكثير - فاشتد قلقهم. وبينما هم في ذلك في آخر نهار الأحد يوم قتلوا الأمراء المذكورين بقبة النصر وقبل أن يمضي النهار جاءت امرأة إلى الأمراء وذكرت لهم أن السلطان مختف عند آمنة زوجة المشتولي في الجودرية فقام ألطنبغا من فوره ومعه جماعة وكبسوا بيت آمنة المذكورة فهرب السلطان واختفى في بادهنج البيت فطلعوا فوجدوه في البادهنج وعليه قماش النساء. فمسكوه وألبسوه عدة الحرب وأحضروه إلى قلعة الجبل فتسلمه الأمير أينبك البدري وخلا به. وأخذ يقرره على الذخائر فأخبره الملك الأشرف بها وقيل إن أينبك المذكور ضربه تحت رجليه عدة عصي. ثم أصبحوا في يوم الاثنين خنقوه وتولى خنقه جاركس شاد عمائر ألجاي اليوسفي فأعطى جاركس المذكور إمرة عشرة واستقر شاد عمائر السلطان. ثم بعد خنق الملك الأشرف لم يدفنوه بل أخذوه ووضعوه في قفة وخيطوا عليها ورموه في بئر. فأقام بها أيامًا إلى أن ظهرت رائحته فاطلع عليه بعض خدامه من الطواشية ثم أخرجوه ودفنوه عند كيمان السيدة نفيسة وذلك الخادم يتبعهم من بعد حتى عرف المكان. فلما دخل الليل أخذ جماعة من إخوته وخدمه ونقلوه في تلك الليلة من موضع دفنوه المماليك ودفنوه بتربة والدته خوند بركة بمدرستها التي بخط التبانة في قبة وحده بعد أن غسلوه وكفنوه وصلوا عليه. وقيل غير ذلك وهو في البيت المذكور وعليه قماش النسوة أركبوه على هيئة بازار خلف مملوك ومشوا خلفه وطلعوا به من على قنطرة باب الخرق وطلعوا به على معذية فريج وطلعوا به من على الصليبة وقت الظهر. وكان من رآه يحسبه أميرًا من الأمراء وفعلوا ذلك خوفًا من العامة فإنهم لو علموا أنه السلطان خلصوه منهم ولو ذهبت أرواحهم الجميع لمحبة الرعية في الأشرف المذكور. ثم دخلوا بالأشرف إلى إسطبل بالقرب من الصليبة مخافة من العامة لا يعرفون به لما تكاثروا للفرجة عليه فأقام بالإسطبل ونزل إليه قرطاي وقرره على الذخائر فقر له. ثم قتله ودفنه بمصطبة بالإسطبل المذكور. فهذه رواية أخرى غير ما ذكرنا أولًا والأول أشهر وأظنه الأصح والأقوى. وأما الذين تخلفوا بالعقبة من الذين وثبوا على الملك الأشرف وكسروه وهرب الأشرف إلى جهة الديار المصرية ولم يدركوه فإنهم اتفقوا الجميع - الأمراء وغيرهم - وتوجهوا إلى الخليفة المتوكل على الله وكان أيضًا في صحبة السلطان الملك الأشرف وقالوا له: يا أمير المؤمنين تسلطن ونحن بين يديك وكانت العصائب السلطانية حاضرة فامتنع الخليفة من ذلك. هذا وهم لا يعلمون بما وقع بالديار المصرية من ركوب هؤلاء وسلطنة أمير علي فإن كل طائفة وثبت على السلطان وليس للأخرى بها علم ولا كان بينهم اتفاقية على ذلك وهذا من غريب ثم بعد ثلاثة أيام أو أقل تكون بمصر أيضًا ويخلع الملك الأشرف ويتسلطن ولده وكلاهما من غير مواعدة الأخرى فنعوذ بالله من زوال النعم. ثم إن الأمراء والمماليك أقاموا بالعقبة بعد هروب السلطان يومين وقد جهزوا للخليفة قماش السلطنة وآلة الموكب وألحوا عليه بالسلطنة وهو يمتنع. وتوجهت القضاة إلى القدس للزيارة ورد الحاج بأسره إلى أبيار العلائي وقد قصدوا العود إلى القاهرة وإبطال الحاج في تلك السنة فنهض الأمير بهادر الجمالي أمير الحافي وردهم وحج بهم. ولما تحققت الأمراء والمماليك أن الخليفة امتنع من السلطنة رجعوا نحو الديار المصرية حتى وصلوا إلى جرود فأتاهم الخبر بما جرى من مسك السلطان الملك الأشرف وقتله فاطمأنوا. فإنهم كانوا على وجل ومنهم من ندم على ما فعل فإنه كان سببًا لزوال دولة الملك الأشرف ولم ينله ما أمل وخرج الأمر لغيره. ثم ساروا الجميع من عجرود إلى أن وصلوا إلى بركة الحاج فسار إليهم جماعة من القائمين بمصر بآلة الحرب فتعبوا لقتالهم. فأرسل طشتمر العلائي الدوادار طليعة عليها قطلقتمر الطويل فقاتلوه المصريون فكسرهم قطلقتمر وسار خلفهم إلى قلعة الجبل. فلما قرب إلى القلعة تكاثروا عليه ومسكوه. وفي ذلك الوقت حضر إلى الديار المصرية الأمير آقتمر الصاحبي نائب السلطنة بالديار المصرية وكان قد توجه إلى بلاد الصعيد قبل توجه السلطان الملك الأشرف إلى الحجاز فتلقاه أمراء مصر وعظموه وقالوا له: أنت نائب السلطنة على عادتك وأنت المتحدث وكلنا مماليكك فلم يسعه إلا مطاوعتهم على ما أرادوا. وكان كلام الأمراء لآقتمر الصاحبي بهذا القول خوفًا ممن أتى من الأمراء والخاصكية من العقبة. ثم اتفق المصريون على قتال طشتمر الدوادار ومن أتى معه من العقبة من المماليك الأشرفية وغيرها فنزلوا إليهم من القلعة بعد المغرب في جمع كبير والتقوا معهم على الصوة من تحت القلعة تجاه الطبلخاناه السلطانية. وتقاتلوا فانكسر طشتمر ومن معه من الأمراء والمماليك الأشرفية وانهزموا بعد المغرب إلى ناحية الكيمان. فلما كان الليل أرسل طشتمر طلب الأمان لنفسه فأرسلوا له الأمان. فلما حضر مسكوه وقيموه هو وجماعته وحبسوهم بالقلعة. ونجيه يقول الأديب شهاب الدين أحمد بن العطار: مجزوء الكامل إن كان طشتمر طغى وأتى بحرب مسرع وبغى سيؤخذ عاجلًا ولكل باغ مصرع قلت: ما أشقى هؤلاء القوم العصاة بالعقبة فإنهم كانوا سببًا لزوال ملك أستاذهم الملك الأشرف وذهاب مهجته من غير أن يحصل أحدهم على طائل. بل ذهبت عنهم الدنيا والآخرة فإنهم عصوا على أستاذهم وخلعوا طاعته من غير موجب. وشمل ضررهم على الحجاج وأما أمر الدنيا فإنها زالت عنهم بالكلية وخرج عنهم إقطاعاتهم ووظائفهم وأرزاقهم ومنهم من قتل أشر قتلة ولم يقر بهم ملك من الملوك بعد ذلك بل صاروا مبعودين في الدول وماتوا قهرًا مما قاسوه من الذل والهوان حتى إنني رأيت منهم من كان عمر واحتاج إلى السؤال وما ربك بظلام للعبيد. وكان السلطان الملك الأشرف - رحمه الله تعالى - من أجل الملوك سماحة وشهامة وتجملًا وسؤددًا. قال قاضي القضاة بدر الدين محمود العيني - رحمه الله - في تاريخه: كان ملكًا جليلًا لم ير مثله في الحلم. كان هينًا لينًا محبًا لأهل الخير والعلماء والفقراء مقتديًا بالأمور الشرعية واقفًا عندها محسنًا لإخوته وأقاربه وبني أعمامه أنعم عليهم وأعطاهم الإمريات والإقطاعات وهذا لم يعهد من ملك قبله في ملوك الترك ولا غيرهم. ولم يكن فيه ما يعاب سوى كونه كان محبًا لجمع المال. وكان كريمًا يفرق في كل سنة على الأمراء أقبية بطرز زركش والخيول المسومة بالكنابيش الزركش والسلاسل الذهب والسروج الذهب وكذلك على جميع أرباب الوظائف وهذا لم يفعله ملك قبله. انتهى كلام العيني باختصار - رحمه الله تعالى -. وقال غيره رحمه الله: وكان ملكًا جليلًا شجاعًا مهابًا كريمًا هينًا لينًا محبًا للرعية. قيل إنه لم يل الملك في الدولة التركية أحلم منه ولا أحسن خلقًا وخلقًا. وأبطل عدة مكوس في سلطنته. والله أعلم. قلت حدثني العلامة علاء الدين علي القلقشندي - تغمده الله تعالى - الشافعي قال: حدثني العلامة قاضي القضاة شمس الدين محمد البساطي المالكي أن الملك الأشرف شعبان هذا كان من فطنته وذكائه يعرف غالب أحوال القلاع الشامية وغيرها ويعرف كيف تؤخذ ومن أين تحاصر معرفة جيدة. قلت هذا دليل على الذكاء المفرط والتيقظ في أحوال مملكته. انتهى. ورأيت أنا كثيرًا من المماليك الأشرفية وبهم رمق وقوة في أوائل الدولة الأشرفية برسباي منهم الأمير آق سنقر الأشرفي الحاجب وغيره. وكانت أيام الملك الأشرف شعبان المذكور بهجة وأحوال الناس في أيامه هادئة مطمئنة والخيرات كثيرة على غلاء وقع في أيامه بالديار المصرية والبلاد الشامية ومع هذا لم يختل من أحوال مصر شيء لحسن تدبيره ومشى سوق أرباب الكمالات في زمانه من كل علم وفن. ونفقت في أيامه البضائع الكاسدة من الفنون والملح وقصدته أربابها من الأقطار وهو لا يكل من الإحسان إليهم في شيء يريده وشيء لا يريده حتى كلمه بعض خواصه في ذلك فقال - رحمه الله -: أفعل هذا لئلا تموت الفنون في دولتي وأيامي. قلت: لعمري إنه كان يخشى موت الفنون والفضائل ولقد جاء من بعده من قتلها صبرًا قبل أوان موتها ودفنها في القبور وعفى أثرها. وما أحسن قول أبي الطيب المتنبي أحمد بن الحسين حيث يقول: الطويل على قدر أهل العزم تأتي الغزائم وتأتي على قدر الكرام المكارم وخلف الملك الأشرف رحمه الله من الأولاد ستة بنين وهم الملك المنصور علي الذي تسلطن من بعده - على ما يأتي ذكره وذكر من قام بسلطنته مفضلًا - والملك الصالح أمير حاج وقاسم ومحمد وإسماعيل وأبو بكر. وولدت بعده خوند سمراء جاريته ولدًا سموه أحمد فصاروا سبعة. وخلف سبع بناب رأيت إحداهن بعد سنة عشرين وثمانمائة. وكانت مدة سلطنة الملك الأشرف أربع عشرة سنة وشهرين وعشرين يومًا. ومات وعمره أربع وعشرون سنة. وقد تقدم مولده في أول ترجمته. ورثاه الشعراء بعد موته بعدة قصائد وحزن الناس عليه حزنًا عظيمًا وكثر تأسفهم عليه. وعمل عزاؤه بالقاهرة عدة أيام. وفيه يقول الشيخ شهاب الدين أحمد بن العطار: البسيط للملك الأشرف المنصور سيدنا مناقب بعضها يبدو به العجب له خلائق بيض لا يغيرها صرف الزمان كما لا يصدأ الذهب كوكب السعد غاب من القلعه وهلالو قد انطفا بأمان وزحل قد قارن المريخ لكسوف شمس الضحى شعبان السنة الأولى من سلطنة الملك الاشرف شعبان بن حسين على مصر وهي سنة خمس وستين وسبعمائة. على أنه حكم في السنة الماضية من شعبان إلى آخرها.
|